فصل: تفسير الآيات (17-21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (8):

{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} وَهَذَا هُوَ قَسِيمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي بَيَانِ حَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَمْ يَعْطِفْ بِالْوَاوِ؛ إِيذَانًا بِكَمَالِ تَبَايُنِ مَضْمُونَيْهِمَا. وَ: {يَوْمَئِذٍ}: هُوَ يَوْمُ الْغَاشِيَةِ الْمُتَقَدِّمُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْغَاشِيَةَ عَامَّةٌ فِي الْفَرِيقَيْنِ. وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهَا مَعَ مُخْتَلَفِ النَّاسِ، وَعَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ تَغْشَاهُ بِهَوْلِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ تَغْشَاهُ بِنَعِيمِهَا. وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مُتَنَاهِيَةٌ فِيمَا تَغْشَاهُمْ بِهِ، وَهِيَ صَادِقَةٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْغَاشِيَةَ تُطْلَقُ عَلَى الْخَيْرِ كَمَا تُطْلَقُ عَلَى الشَّرِّ، بِمَعْنَى الشُّمُولِ وَالْإِحَاطَةِ التَّامَّةِ. وَمِنْ إِطْلَاقِهَا عَلَى الْخَيْرِ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ وَتَحْقِيقُهُ فِي حَقِّ كِلَا الْقِسْمَيْنِ كَالْآتِي:
أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا:- وَهُوَ الْغَاشِيَةُ فِي حَقِّ أَهْلِ النَّارِ- فَقَدْ غَشِيَهُمُ الْعَذَابُ حِسًّا وَمَعْنًى، ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَوْ لَا خُشُوعَ فِي ذِلَّةٍ، وَهِيَ نَاحِيَةٌ نَفْسِيَّةٌ، وَهِيَ أَثْقَلُ أَحْيَانًا مِنَ النَّاحِيَةِ الْمَادِّيَّةِ، فَقَدْ يَخْتَارُ بَعْضُ النَّاسِ الْمَوْتَ عَنْهَا، ثُمَّ مَعَ الذِّلَّةِ الْعَمَلُ وَالنَّصَبُ حِسًّا وَبَدَنًا، وَمَعَ النَّصَبِ الشَّدِيدِ: {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} وَكَانَ يَكْفِي تَصْلَى نَارًا. وَلَكِنْ إِتْبَاعُهَا بِوَصْفِهَا حَامِيَةً؛ فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي إِبْرَازِ عَذَابِهِمْ، وَزِيَادَةٌ فِي غَشَيَانِ الْعَذَابِ لَهُمْ، ثُمَّ يُسْقَوْنَ: {مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ}: مُتَنَاهِيَةٍ فِي الْحَرَارَةِ؛ فَيَكُونُونَ بَيْنَ نَارٍ حَامِيَةٍ مِنَ الْخَارِجِ وَحَمِيمٍ مِنَ الدَّاخِلِ تَصْهَرُ مِنْهُ الْبُطُونُ، فَهُوَ أَتَمُّ فِي الشُّمُولِ لِلْغَاشِيَةِ لَهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَفِي حَقِّ الْقِسْمِ الْمُقَابِلِ تَعْمِيمٌ كَامِلٌ وَسُرُورٌ شَامِلٌ كَالْآتِي، وُجُوهٌ نَاعِمَةٌ مُكْتَمِلَةُ النِّعْمَةِ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ.
وَهَذَا فِي شُمُولِهِ مِنَ النَّاحِيَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، كَمُقَابِلَةٍ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ بَدَلًا مِنْ خَاشِعَةٍ فِي ذِلَّةٍ نَاعِمَةٍ فِي نَضْرَةٍ: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} الَّذِي سِعَتُهُ فِي الدُّنْيَا، وَالَّذِي تَسْعَى لِتَحْصِيلِهِ أَوْ ثَوَابِهِ: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} بَدَلًا مِنْ عَمَلٍ وَنَصَبٍ. {لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً}: مَنْزِلَةٌ أَدَبِيَّةٌ رَفِيعَةٌ؛ حَيْثُ لَا تَسْمَعُ فِيهَا كَلِمَةَ لَغْوٍ وَلَا يَلِيقُ بِهَا، فَهُوَ إِكْرَامٌ لَهُمْ حَتَّى فِي الْكَلِمَةِ الَّتِي يَسْمَعُونَهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ:
{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [56/ 25- 26].
فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا عُيُونٌ وَأَنْهَارٌ تَجْرِي، كَقَوْلِهِ: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [15/ 45]، وَمِنْ لَوَازِمَ الْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ، هُوَ كَمَالُ النَّعِيمِ، فَأَشْجَارٌ وَرَيَاحِينُ، فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ. وَهَذَا فِي التَّعْمِيمِ يُقَابِلُ الْعَيْنَ الْآنِيَةَ فِي الْحَمِيمِ لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ.
{فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} وَهُمْ عَلَيْهَا مُتَّكِئُونَ، بَدَلٌ مِنْ عَمَلِ الْآخَرِينَ فِي نَصَبٍ وَشَقَاءٍ.
{وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} لِإِتْمَامِ التَّمَتُّعِ وَكَمَالِ الْخِدْمَةِ وَالرَّفَاهِيَةِ. {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} مُتَّكَأً: {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} مَفْرُوشَةٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَاكْتَمَلَ النَّعِيمُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَيْثُ اشْتَمَلَ مَا تَرَاهُ الْعَيْنُ وَمَا تَسْمَعُهُ الْأُذُنُ، وَمَا يَتَذَوَّقُونَ طَعْمَهُ مِنْ شَرَابٍ وَغَيْرِهِ.
فَيَكُونُ بِذَلِكَ قَدْ غَشِيَتْهُمُ النِّعْمَةُ، كَمَا غَشِيَتْ أُولَئِكَ النِّقْمَةُ، وَتَكُونُ الْغَاشِيَةُ بِمَعْنَى الشَّامِلَةُ، وَعَلَى عُمُومِهَا لِلْفَرِيقَيْنِ، وَهِيَ صَالِحَةٌ لُغَةً وَشَرْعًا لِلْمُعَذَّبِينَ بِالْعَذَابِ، وَلِلْمُنَعَّمِينَ بِالنَّعِيمِ. وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
تَنْبِيهٌ.
مَجِيءُ فِيهَا مَرَّتَيْنِ: فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ، فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ؛ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قِسْمَيْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ. الْأَوَّلُ: عُيُونٌ وَنُزْهَةٌ. وَالثَّانِي: سُرُرٌ وَسَكَنٌ.

.تفسير الآيات (17-21):

{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} تَوْجِيهُ الْأَنْظَارِ إِلَى تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ عَظِيمِ الدَّلَائِلِ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَعَلَى الْبَعْثِ، وَثُمَّ الْإِقْرَارُ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، نَتِيجَةً لِإِثْبَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى لِجَمِيعِ خَلْقِهِ.
أَمَّا الْإِبِلُ: فَلَعَلَّهَا أَقْرَبُ الْمَعْلُومَاتِ لِلْعَرَبِ، وَأَلْصَقُهَا بِحَيَاتِهِمْ فِي مَطْعَمِهِمْ مِنْ لَحْمِهَا وَمَشْرَبِهِمْ مِنْ أَلْبَانِهَا، وَمَلْبَسِهِمْ مِنْ أَوْبَارِهَا وَجُلُودِهَا، وَفِي حِلِّهِمْ وَتِرْحَالِهِمْ بِالْحَمْلِ عَلَيْهَا، مِمَّا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ لَا فِي الْخَيْلِ وَلَا فِي الْفِيَلَةِ، وَلَا فِي أَيِّ حَيَوَانٍ آخَرَ، وَقَدْ وَجَّهَ الْأَنْظَارَ إِلَيْهَا مَعَ غَيْرِهَا فِي مَعْرِضِ امْتِنَانِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ:
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [36/ 71- 73].
وَكَذَلِكَ فِي خُصُوصِهَا فِي قَوْلِهِ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [16/ 5- 7].
إِنَّهَا نِعَمٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَمَنَافِعٌ بَالِغَةٌ لَمْ تُوجَدْ فِي سِوَاهَا الْبَتَّةَ، وَكُلٌّ مِنْهَا دَلِيلٌ عَلَى الْقُدْرَةِ بِذَاتِهِ. أَمَّا الْجِبَالُ: فَهِيَ مِمَّا يَمْلَأُ عُيُونَهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَيَشْغَلُ تَفْكِيرَهُمْ فِي كُلِّ حِينٍ؛ لِقُرْبِهَا مِنْ حَيَاتِهِمْ فِي الْأَمْطَارِ وَالْمَرْعَى فِي سُهُولِهَا، وَالْمَقِيلِ فِي كُهُوفِهَا وَظِلِّهَا، وَالرَّهْبَةِ وَالْعَظَمَةِ فِي تَطَاوُلِهَا وَثَبَاتِهَا فِي مَكَانِهَا. وَقَدْ وَجَّهَ الْأَنْظَارَ إِلَيْهَا أَيْضًا فِي مَوْطِنٍ آخَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [78/ 6- 7]، ثَوَابِتٌ كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهَا رَوَاسِي لِلْأَرْضِ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ فَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِحَيَاتِهِمْ وَحَيَاةِ أَنْعَامِهِمْ كَمَا أَسْلَفْنَا.
أَمَّا السَّمَاءُ وَرَفْعُهَا: أَيْ: وَرَفْعَتُهَا فِي خَلْقِهَا، وَبِدُونِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا، وَبِدُونِ فُطُورٍ أَوْ تَشَقُّقٍ عَلَى تَطَاوُلِ زَمَنِهَا، فَهِيَ أَيْضًا مَحَطُّ أَنْظَارِهِمْ، وَمُلْتَقَى طَلَبَاتِهِمْ فِي سُقْيَا أَنْعَامِهِمْ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَلْقَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى الْبَعْثِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا.
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الْآيَةَ [2/ 164]. بَيَانُ كَوْنِهَا آيَةً. أَمَّا الْأَرْضُ وَكَيْفَ سُطِحَتْ، فَإِنَّ الْآيَةَ فِيهَا مَعَ عُمُومِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [40/ 57].
وَقَوْلُهُ: {كَيْفَ سُطِحَتْ} [88/ 20] آيَةٌ ثَابِتَةٌ؛ لِأَنَّ جِرْمَهَا مَعَ إِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى تَكْوِيرِهَا، فَإِنَّهَا تُرَى مُسَطَّحَةً، أَيْ: مِنَ النُّقْطَةِ الَّتِي هِيَ فِي امْتِدَادِ الْبَصَرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى سِعَتِهَا وَكِبَرِ حَجْمِهَا؛ لِأَنَّ الْجِرْمَ الْمُتَكَوِّرَ إِذَا بَلَغَ مِنَ الْكِبَرِ وَالضَّخَامَةِ حَدًّا بَعِيدًا يَكَادُ سَطْحُهُ يُرَى مُسَطَّحًا مِنْ نُقْطَةِ النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ آيَاتٌ مُتَعَدِّدَاتٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى بَعْثِ الْخَلَائِقِ، وَعَلَى إِيقَاعِ مَا يَغْشَاهُمْ عَلَى مُخْتَلَفِ أَحْوَالِهِمْ.
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [10/ 101]. الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ يُونُسَ.
تَنْبِيهٌ.
التَّوْجِيهُ هُنَا بِالنَّظَرِ إِلَى الْكَيْفِيَّةِ فِي خَلْقِ الْإِبِلِ، وَنَصْبِ الْجِبَالِ، وَرَفْعِ السَّمَاءِ، وَتَسْطِيحِ الْأَرْضِ، مَعَ أَنَّ الْكَيْفَ لِلْحَالَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُشْهِدْ أَحَدًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [18/ 51]. فَكَيْفَ يُوَجِّهُ السُّؤَالَ إِلَيْهِمْ لِلنَّظَرِ إِلَى الْكَيْفِيَّةِ وَهِيَ شَيْءٌ لَمْ يَشْهَدُوهُ؟!!.
وَالْجَوَابُ- وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ-: هُوَ أَنَّهُ بِالتَّأَمُّلِ فِي نَتَائِجَ خَلْقِ الْإِبِلِ، وَنَصْبِ الْجِبَالِ إِلَخْ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا الْكَيْفَ، بَلْ وَيَعْجِزُونَ عَنْ كُنْهِهِ وَتَحْقِيقِهِ، فَهُوَ أَبْلَغُ فِي إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِمْ، كَمَنْ يَقِفُ أَمَامَ صَنْعَةٍ بَدِيعَةٍ يَجْهَلُ سِرَّ صَنْعَتِهَا، فَيَتَسَاءَلُ كَيْفَ تَمَّ صُنْعُهَا؟ وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ: وَهُوَ الْإِحَالَةُ عَلَى الْأَثَرِ بَدَلًا مِنْ كَشْفِ الْكُنْهِ وَالْكَيْفِ، وَذَلِكَ فِي سُؤَالِ الْخَلِيلِ- عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- رَبَّهُ: أَنْ يُرِيَهُ كَيْفَ يُحْيِي الْمَوْتَى. فَكَانَ الْجَوَابُ: أَنْ أَرَاهُ الطُّيُورَ تَطِيرُ، بَعْدَ أَنْ ذَبَحَهَا بِيَدِهِ وَقَطَّعَهَا، وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهَا جُزْءًا. فَلَمْ يُشَاهِدْ كَيْفِيَّةَ وَكُنْهَ، وَحَقِيقَةَ الْإِحْيَاءِ، وَهُوَ دَبِيبُ الرُّوحِ فِيهَا وَعَوْدَةُ الْحَيَاةِ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِهِ، وَلَكِنْ شَاهَدَ الْآثَارَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَهِيَ تُحَرِّكُهَا وَطَيَرَانِهَا، وَعَوْدَتِهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَبْحِهَا. مَعَ أَنَّهُ كَانَ لِلْعُزَيْرِ مَوْقِفٌ مُمَاثِلٌ وَإِنْ كَانَ أَوْضَحَ فِي الْبَيَانِ؛ حَيْثُ شَاهَدَ الْعِظَامَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَنْشُرُهَا، ثُمَّ يَكْسُوهَا لَحْمًا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، فَإِنَّ مَجِيءَ هَذَا الْأَمْرِ بِالْفَاءِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ، فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ النَّظَرَ الدَّقِيقَ وَالْفِكْرَ الدَّارِسَ، مِمَّا قَدْ يُؤَدِّي بِصَاحِبِهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ وَعَلَى قُدْرَتِهِ، كَمَا نَطَقَ مُؤْمِنُ الْجَاهِلِيَّةِ: قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ، فِي خُطْبَتِهِ الْمَشْهُورَةِ: لَيْلٌ دَاجٍ، وَنَهَارٌ سَاجٍ، وَسَمَاءُ ذَاتُ أَبْرَاجٍ، وَنُجُومٌ تُزْهِرُ، وَبِحَارٍ تَزْخَرُ، وَجِبَالٌ مُرْسَاةٌ، وَأَرْضٌ مُدْحَاةٌ، وَأَنْهَارٌ مُجْرَاةٌ. فَقَدْ ذَكَرَ السَّمَاءَ، وَالْجِبَالَ، وَالْأَرْضَ.
وَكَقَوْلِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، مُؤْمِنُ الْجَاهِلِيَّةِ الْمَعْرُوفُ:
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ** لَهُ الْأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالًا

دَحَاهَا فَلَمَّا اسْتَوَتْ شَدَّهَا ** سَوَاءً وَأَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَا

وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ** لَهُ الْمُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلَالَا

إِذَا هِيَ سِيقَتْ إِلَى بَلْدَةٍ ** أَطَاعَتْ فَصَبَّتْ عَلَيْهَا سِجَالَا

وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ** لَهُ الرِّيحُ تُصْرَفُ حَالًا فَحَالَا

فَكَانَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَنْظُرُوا بِدِقَّةٍ وَتَأَمُلٍ، فِيمَا يُحِيطُ بِهِمْ عَامَّةً. وَفِي تِلْكَ الْآيَاتِ الْكِبَارِ خَاصَّةً، فَيَجِدُونَ فِيهَا مَا يَكْفِيهِمْ.
كَمَا قِيلَ:
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ** تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ

فَإِذَا لَمْ يَهْدِهِمْ تَفْكِيرُهُمْ، وَلَمْ تَتَّجِهْ أَنْظَارُهُمْ. فَذَكِّرْهُمْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. وَهَذَا عَامٌّ، أَيْ: سَوَاءٌ بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْقُدْرَةِ مِنْ تِلْكَ الْمَصْنُوعَاتِ، أَوْ بِالتِّلَاوَةِ مِنْ آيَاتِ الْوَحْيِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.تفسير الآية رقم (25):

{إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْإِيَابَ هُوَ الْمَرْجِعُ.
قَالَ عُبَيْدٌ:
وَكُلُّ ذِي غَيْبَةٍ يَئُوبُ ** وَغَائِبُ الْمَوْتِ لَا يَئُوبُ

كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [5/ 48]، وَهُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَمَا فِي صَرِيحِ مَنْطُوقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} الْآيَةَ [3/ 55]. وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [6/ 164].
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [88/ 26]، الْإِتْيَانُ بِثُمَّ؛ لِلْإِشْعَارِ مَا بَيْنَ إِيَابِهِمْ وَبَدْءِ حِسَابِهِمْ: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [22/ 47].
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ عَلَيْنَا} بِتَقَدُّمِ حَرْفِ التَّأْكِيدِ، وَإِسْنَادِ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَبِحَرْفِ عَلَى مِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّهُ بِأَدَقِّ مَا يَكُونُ، وَعَلَى الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [2/ 284].
وَمِنَ الْوَاضِحِ مَجِيءُ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ، بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ}; تَسْلِيَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَخْوِيفًا لِأُولَئِكَ الَّذِينَ تَوَلَّوْا وَأَعْرَضُوا، ثُمَّ إِنَّ الْحِسَابَ فِي الْيَوْمِ الْآخِرِ لَيْسَ خَاصًّا بِهَؤُلَاءِ، بَلْ هُوَ عَامٌّ بِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ. وَلَكِنَّ إِسْنَادَهُ لِلَّهِ تَعَالَى مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمَعَانِي الْمُتَقَدِّمَةِ.
نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالسَّلَامَةَ.

.سُورَةُ الْفَجْرِ:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

.تفسير الآيات (1-4):

{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي} اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْفَجْرِ، فَقِيلَ: انْفِجَارُ النَّهَارِ مِنْ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ.
وَقِيلَ: صَلَاةُ الْفَجْرِ.
وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ لَهُ شَاهَدٌ مِنَ الْقُرْآنِ. أَمَّا انْفِجَارُ النَّهَارِ، فَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [81/ 18].
وَأَمَّا صَلَاةُ الْفَجْرِ فَكَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [17/ 78]، وَلَكِنْ فِي السِّيَاقِ مَا يُقَرِّبُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، إِذْ هُوَ فِي الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي: الْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ، اللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي، وَكُلُّهَا آيَاتٌ زَمَنِيَّةٌ أُنْسِبَ لَهَا انْفِجَارُ النَّهَارِ.
بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي أَيِّ الْفَجْرِ عَنَى هُنَا؟ فَقِيلَ بِالْعُمُومِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَقِيلَ: بِالْخُصُوصِ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-.
وَعَلَى الثَّانِي، فَقِيلَ: خُصُوصُ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ. وَقِيلَ: أَوَّلُ يَوْمِ الْمُحَرَّمِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ نَصٌّ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. إِلَّا أَنَّ فَجْرَ يَوْمِ النَّحْرِ أَقْرَبُ إِلَى اللَّيَالِي الْعَشْرِ، إِنْ قُلْنَا: هِيَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ عَلَى مَا يَأْتِي. إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
أَمَّا اللَّيَالِي الْعَشْرُ: فَأَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ مَحْصُورَةٌ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَعَشْرِ الْمُحَرَّمِ، وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ. وَالْأَوَّلُ: جَاءَ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهَا الْعَشْرُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [7/ 142]، وَكُلُّهَا الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ بِعَيْنِهَا.
وَفِي السُّنَّةِ بَيَانُ فَضِيلَةِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَعَشْرِ رَمَضَانَ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، فَإِنَّ جَعْلَ الْفَجْرِ خَاصًّا بِيَوْمِ النَّحْرِ، كَانَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ أَقْرَبَ لِلسِّيَاقِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ قَوْلًا، وَمَجْمُوعُهَا يَشْمَلُ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا.
أَمَّا جُمْلَةً، فَقَالُوا: إِنَّمَا الْوَتْرُ هُوَ اللَّهُ؛ لِلْحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ، وَمَا سِوَاهُ شَفْعٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [51/ 49]، فَهَذَا شَمِلَ كُلَّ الْوُجُودِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، كَمَا فِي عُمُومِ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} [69/ 38- 39].
أَمَّا التَّفْصِيلُ، فَقَالُوا: الْمَخْلُوقَاتُ إِمَّا شَفْعٌ كَالْحَيَوَانَاتِ أَزْوَاجًا، وَالسَّمَاءِ، وَالْأَرْضِ، وَالْجَبَلِ، وَالْبَحْرِ، وَالنَّارِ، وَالْمَاءِ. وَهَكَذَا ذَكَرُوا لِكُلِّ شَيْءٍ مُقَابِلَهُ، وَمِنَ الْأَشْيَاءِ الْفَرْدُ كَالْهَوَاءِ. وَكُلُّهَا مِنْ بَابِ الْأَمْثِلَةِ.
وَالْوَاقِعُ أَنَّ أَقْرَبَ الْأَقْوَالِ عِنْدِي- وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: أَنَّهُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عِلْمِيًّا أَنَّهُ لَا يُوجَدُ كَائِنٌ مَوْجُودٌ بِمَعْنَى الْوَتْرِ قَطُّ حَتَّى الْحَصَاةُ الصَّغِيرَةُ.
فَإِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ كَائِنٍ جَمَادٍ أَوْ غَيْرِهِ مُكَوَّنٌ مِنْ ذَرَّاتٍ، وَالذَّرَّةُ لَهَا نَوَاةٌ وَمُحِيطٌ، وَبَيْنَهُمَا ارْتِبَاطٌ وَعَنْ طَرِيقِهِمَا التَّفْجِيرُ الَّذِي اكْتُشِفَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، حَتَّى فِي أَدَقِّ عَالَمِ الصِّنَاعَةِ: كَالْكَهْرُبَاءِ؛ فَإِنَّهَا مِنْ سَالِبٍ وَمُوجَبٍ، وَهَكَذَا لَابُدَّ مِنْ دَوْرَةٍ كَهْرُبَائِيَّةٍ لِلْحُصُولِ عَلَى النَّتِيجَةِ مِنْ أَيِّ جِهَازٍ كَانَ، حَتَّى الْمَاءُ الَّذِي كَانَ يُظَنُّ بِهِ الْبَسَاطَةُ؛ فَهُوَ زَوْجٌ وَشَفْعٌ مِنْ عُنْصُرَيْنِ: أُوكْسِجِينْ وَهِدْرُوجِينْ، يَنْفَصِلَانِ إِذَا وَصَلَتْ دَرَجَةُ حَرَارَةِ الْمَاءِ إِلَى مِائَةٍ- أَيْ: الْغَلَيَانُ- وَيَتَآلَفَانِ إِذَا نَزَلَتِ الدَّرَجَةُ إِلَى حَدٍّ مُعَيَّنٍ فَيَتَاقَطَرَانِ مَاءً. وَهَكَذَا.
وَنَفْسُ الْهَوَاءِ عِدَّةُ غَازَاتٍ وَتَرَاكِيبَ، فَلَمْ يَبْقَ فِي الْكَوْنِ شَيْءٌ قَطُّ فَرْدًا وَتْرًا بِذَاتِهِ، إِلَّا مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ: إِنَّ اللَّهَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرُ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَعْنَى الْوَتْرِ فِيهِ مُسْتَغْنٍ بِذَاتِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَالْوَاحِدُ فِي ذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. فَصِفَاتُهُ كُلُّهَا وَتْرٌ: كَالْعِلْمِ بِلَا جَهْلٍ وَالْحَيَاةِ بِلَا مَوْتٍ. إِلَخْ. بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ، وَقُلْنَا: الْمُسْتَغْنِي بِذَاتِهِ عَنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ شَفْعًا، فَإِنَّ كُلَّ عُنْصُرٍ مِنْهُ فِي حَاجَةٍ إِلَى الْعُنْصُرِ الثَّانِي؛ لِيَكُونَ مَعَهُ ذَاكَ الشَّيْءُ وَاللَّهِ سُبْحَانَهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّ الْوَتْرَ هُوَ اللَّهُ، وَالشَّفْعَ هُوَ الْمَخْلُوقَاتُ جَمِيعُهَا، هُوَ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ، وَهُوَ الْأَعَمُّ فِي الْمَعْنَى.
قَوْلُهُ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي} اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ سَرَيَانُ اللَّيْلِ، وَلَكِنَّ الْخِلَافَ فِي التَّعْيِينِ: هَلِ الْمُرَادُ بِهِ عُمُومُ اللَّيَالِي فِي كُلِّ لَيْلَةٍ أَمْ لَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ؟ وَمَا هِيَ؟
فَقِيلَ: بِالْعُمُومِ كَقَوْلِهِ: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [81/ 17].
وَقِيلَ: بِالْخُصُوصِ فِي لَيْلَةِ مُزْدَلِفَةَ أَوْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ.
وَأَيْضًا يُقَالُ: إِذَا كَانَ الْفَجْرُ فَجْرُ النَّحْرِ، وَالْعَشْرُ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ فَيَكُونُ: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي، لَيْلَةَ الْجَمْعِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَجَّحَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ عُمُومَ اللَّيْلِ، وَقَدْ جَمَعَ فِي هَذَا الْقِسْمِ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، فَشَمَلَتِ الْخَالِقَ وَالْمَخْلُوقَ وَالشَّفْعَ وَالْوَتْرَ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، فِي انْفِجَارِ الْفَجْرِ، وَانْتِشَارِ الْخَلْقِ، وَسَرَيَانِ اللَّيْلِ، وَسُكُونِ الْكَوْنِ، وَالْعِبَادَاتِ فِي اللَّيَالِي الْعَشْرِ.
فَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [89/ 5]، أَيْ: عَقْلٌ، وَالْحِجْرُ كُلُّ مَادَّتِهِ تَدُورُ عَلَى الْإِحْكَامِ وَالْقُوَّةِ، فَالْحَجَرُ؛ لِقُوَّتِهِ. وَالْحُجْرَةُ؛ لِإِحْكَامٍ مَا فِيهَا. وَالْعَقْلُ سُمِّيَ حِجْرًا- بِكَسْرِ الْحَاءِ-؛ لِأَنَّهُ يَحْجُرُ صَاحِبَهُ عَمًّا لَا يَلِيقُ. وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ؛ لِمَنْعِهِ مِنْ تَصَرُّفِهِ وَإِحْكَامِ أَمْرِهِ، وَحَجْرُ الْمَرْأَةِ لِطِفْلِهَا، فَهَذِهِ الْمُقْسَمُ بِهَا الْخَمْسَةُ هَلْ فِيهَا قَسَمٌ كَافٍ لِذِي عَقْلٍ؟ وَالْجَوَابُ: بَلَى، وَهَذَا مَا يُقَوِّي هَذَا الْقَسَمَ بِلَا شَكٍّ.
ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي جَوَابِ هَذَا الْقَسَمِ: حَيْثُ لَمْ يُصَرِّحْ تَعَالَى بِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي نَظِيرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [56/ 75- 76]. ثُمَّ صَرَّحَ بِالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} الْآيَةَ [56/ 77]. وَهُنَا لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ مَعَ عِظَمِ الْقَسَمِ؛ فَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي تَعْيِينِهِ.
فَقِيلَ: هُوَ مُقَدَّرٌ تَقْدِيرُهُ لَيُعَذِّبَنَّ يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِلَى قَوْلِهِ: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [89/ 6- 14].
وَقِيلَ: مَوْجُودٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [89/ 14]، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ.
وَهَذَا مِنْ حَيْثُ الصِّنَاعَةِ فِي اللُّغَةِ وَأَسَالِيبِ التَّفْسِيرِ وَجِيهٌ، وَلَكِنْ يُوجَدُ فِي نَظَرِي- وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ-: ارْتِبَاطٌ بَيْنَ الْقَسَمِ وَجَوَابُهُ، وَبَيْنَ مَا يَجِيءُ فِي آخِرِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} [89/ 21]، إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
كَمًّا أَنَّهُ يَظْهَرُ ارْتِبَاطٌ كَبِيرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخِرِ السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، إِذْ جَاءَ فِيهَا: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ} [88/ 21- 24]، وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ إِلَى قَوْلِهِ: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [89/ 1- 5]؛ لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ بِالْعَذَابِ الْأَكْبَرِ وَالْقَصْرِ فِي إِيَابِهِمْ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَحِسَابِهِمْ عَلَيْهِ فَحَسْبُ يَتَنَاسَبُ مَعَهُ هَذَا الْقَسَمُ الْعَظِيمُ.
أَمَّا ارْتِبَاطُهُ بِمَا فِي آخِرِ السُّورَةِ، فَهُوَ أَنَّ الْمُقْسَمَ بِهِ هُنَا خَمْسُ مُسَمَّيَاتٌ: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [89/ 1- 4]، وَالَّذِي فِي آخِرِ السُّورَةِ أَيْضًا خَمْسُ مُسَمَّيَاتٍ: {دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [89/ 21- 23].
صُوَرٌ اشْتَمَلَتْ عَلَى الْيَوْمِ الْآخِرِ كُلِّهِ مِنْ أَوَّلِ النَّفْخِ فِي الصُّوَرِ، وَدَكِّ الْأَرْضِ إِلَى نِهَايَةِ الْحِسَابِ، وَتَذَكُّرِ كُلِّ إِنْسَانٍ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، تُقَابِلُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقَسَمُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا.

.تفسير الآيات (6-11):

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَاذَا وَلَا كَيْفَ فَعَلَ، بِمَنْ ذَكَرُوا، وَهُمْ: عَادٌ، وَثَمُودُ، وَفِرْعَوْنُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ثَلَاثَتِهِمْ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ إِلَى قَوْلِهِ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [69/ 105- 10].
وَالْجَدِيدُ هُنَا: هُوَ وَصْفُ كُلٍّ مِنْ عَادٍ مِنْ أَنَّهَا ذَاتُ الْعِمَادِ، وَلَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ، وَثَمُودَ أَنَّهُمْ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، وَفِرْعَوْنَ أَنَّهُ ذُو أَوْتَادٍ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمَعْنَى بِهَذِهِ الصِّفَاتِ كُلِّهَا:
أَمَّا عَادٌ، فَقِيلَ: الْعِمَادُ عِمَادُ بُيُوتِ الشَّعَرِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْقَبِيلَةُ. وَطُولُ عِمَادِ بُيُوتِهَا: كِنَايَةٌ عَنْ طُولِ أَجْسَامِهِمْ، كَمَا قِيلَ فِي صَخْرٍ:
رَفِيعُ الْعِمَادِ طَوِيلُ النِّجَادِ وَطُولُ الْأَجْسَامِ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ أَصْحَابِهَا.
وَقِيلَ: إِرَمُ كَانَتْ مَدِينَةً رَفِيعَةَ الْبُنْيَانِ، وَذَكَرُوا فِي أَخْبَارِهَا قِصَصًا تَفُوقُ الْخَيَالَ، وَأَنَّهَا فِي الرَّبْعِ الْخَالِي، وَلَكِنْ حَيْثُ لَمْ تَثْبُتْ أَخْبَارُهَا بِسَنَدٍ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُصَدِّقْهُ الْوَاقِعُ، فَقَالَ قَوْمٌ: قَدْ خُسِفَ بِهَا وَلَمْ تَعُدْ مَوْجُودَةً.
أَمَّا ثَمُودُ: فَقَدْ جَابُوا، أَيْ: نَحَتُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، بِوَادِ الْقُرَى فِي مَدَائِنِ صَالِحٍ، وَهِيَ بُيُوتُهُمْ مَوْجُودَةٌ حَتَّى الْآنَ.
وَأَمَّا فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ، فَقِيلَ: هِيَ أَوْتَادُ الْخِيَامِ، كَانَ يَتِدُهَا لِمَنْ يُعَذِّبُهُمْ.
وَقِيلَ: هِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجُنُودِ يُثَبِّتُ بِهَا مُلْكَهُ.
وَقِيلَ: هِيَ أَكَمَاتٌ وَأَسْوَارٌ مُرْتَفِعَاتٌ، يُلْعَبُ لَهُ فِي مَرَابِعِهَا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ مَا نَصُّهُ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ، ذَكَرَ لَنَا أَنَّهَا كَانَتْ مَطَالٌّ، وَمَلَاعِبُ يُلْعَبُ لَهُ تَحْتَهَا مِنْ أَوْتَادٍ وَجِبَالٍ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ- وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ-: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّحِيحُ، وَأَنَّهَا مُرْتَفِعَةٌ، وَأَنَّهَا هِيَ الْمَعْرُوفَةُ الْآنَ بِالْأَهْرَامِ بِمِصْرَ، وَيُرَجِّحُ ذَلِكَ عِدَّةُ أُمُورٍ:
مِنْهَا: أَنَّهَا تُشْبِهُ الْأَوْتَادَ فِي مَنْظَرِهَا طَرَفُهُ إِلَى أَعْلَى، إِذِ الْقِمَّةُ شِبْهُ الْوَتَدِ، مُدَبَّبَةٌ بِالنِّسْبَةِ لَضَخَامَتِهَا، فَهِيَ بِشَكْلٍ مُثَلَّثٍ، قَاعِدَتُهُ إِلَى أَسْفَلَ وَطَرَفُهُ إِلَى أَعْلَى.
وَمِنْهَا: ذِكْرُهُ مَعَ ثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، بِجَامِعِ مَظَاهِرِ الْقُوَّةِ، فَأُولَئِكَ نَحَتُوا الصَّخْرَ بُيُوتًا فَارِهِينَ، وَهَؤُلَاءِ قَطَعُوا الصَّخْرَ الْكَبِيرَ مِنْ مَوْطِنٍ لَا جِبَالَ حَوْلَهُ، مِمَّا يَدُلُّ أَنَّهَا نُقِلَتْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. وَالْحَالُ أَنَّهَا قِطَعٌ كِبَارٌ صَخِرَاتٌ عِظَامٌ فَفِي اقْتِطَاعِهَا وَفِي نَقْلِهَا إِلَى مَحَلِّ بِنَائِهَا، وَفِي نَفْسِ الْبِنَاءِ كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْقُوَّةِ وَالْجَبَرُوتِ، وَتَسْخِيرِ الْعِبَادِ فِي ذَلِكَ.
وَمِنْهَا: أَنَّ حَمْلَهَا عَلَى الْأَهْرَامِ الْقَائِمَةِ بِالذَّاتِ وَالْمُشَاهَدَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَلِكُلِّ جِيلٍ،
أَوْقَعَ فِي الْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ؛ بِأَنَّ مَنْ أَهْلَكَ تِلْكَ الْأُمَمَ، قَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ.
صَدَقَ اللَّهُ الْعَظِيمُ: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [89/ 14].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلَّا} بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يُعْطِي وَيُمْسِكُ ابْتِلَاءً لِلْعَبْدِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كَلَّا} وَهِيَ كَلِمَةُ زَجْرٍ وَرَدْعٍ، وَبَيَانٌ أَنَّ الْمَعْنَى لَا كَمَا قُلْتُمْ، فِيهِ تَعْدِيلٌ لِمَفَاهِيمِ الْكُفَّارِ؛ بِأَنَّ الْعَطَاءَ وَالْمَنْعَ لَا عَنْ إِكْرَامٍ وَلَا لِإِهَانَةٍ، وَلَكِنَّهُ ابْتِلَاءٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [21/ 35].
وَقَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [8/ 28].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} بَعْدَ مَا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ صِحَّةَ الْمَفَاهِيمِ فِي الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ، جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَبَيَّنَ حَقِيقَةَ فِتْنَةِ الْمَالِ إِيجَابًا وَسَلْبًا جَمْعًا وَبَذْلًا، فَبَدَأَ بِأَقْبَحِ الْوُجُوهِ مِنَ: الْإِمْسَاكِ مِنْ عَدَمِ إِكْرَامِ الْيَتِيمِ، مَهِيضِ الْجَنَاحِ، مَكْسُورِ الْخَاطِرِ، وَالتَّقَاعُسِ عَنْ إِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، خَالِي الْيَدِ، جَائِعِ الْبَطْنِ، سَاكِنِ الْحَرَكَةِ، وَهَذَانِ الْجَانِبَانِ أَهَمُّ مُهِمَّاتِ بَذْلِ الْمَالِ وَهُمْ يُمْسِكُونَ عَنْهَا، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْجَانِبَ هُوَ اقْتِحَامُ الْعَقَبَةِ عِنْدَ الشِّدَّةِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَلَدِ: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [90/ 11- 16].
وَمِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ: وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا أَيِ: الْمِيرَاثَ، فَلَا يُعْطُونَ النِّسْوَةَ وَهُنَّ ضَعِيفَاتُ الشَّخْصِيَّةِ، أَحْوَجُ إِلَى مَالِ مُوَرِّثِهِنَّ، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا حَتَّى اسْتَعْبَدَكُمْ وَأَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ فِيهِ.
وَهُنَا لَفْتُ نَظَرٍ لِلْفَرِيقَيْنِ، فَمَنْ أُعْطِيَ مِنْهُمْ: لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُغْفِلَ طُرُقَ الْبَذْلِ الْهَامَّةَ، وَمَنْ مُنِعَ: لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَشْرِفَ إِلَى مَا لَا يَنْبَغِي لَهُ. وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.